الترابط بين العقيدة
الصحيحة والتنمية
خالد
بن عبدالله الغليقة
يقول الله سبحانه وتعالى :
} ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم {(1)
يقول عباس العقاد : ( بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علماً عليها وتضاءلت سطوتها في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها .. ) (2)
من الحقائق التاريخية التي كاد يتفق عليها كثير من المؤرخين أن من أسباب خلخلة مكانة الدولة الإسلامية منذ ظهورها إلى عصرنا هذا هو تخلفها حضارياً وتنموياً , وعدم مواكبتها للتطور والتقدم والتحديث ؛ وأحسب أن من أهم أسباب ذلك هو انشغال علمائها ومفكريها بالجدل فيما لا يصلح فيه الجدل , وبالمناظرة فيما لا يجوز فيه المناظرة , وبالرد فيما يحرم فيه الرد , وكذلك التفرغ للكتابة فيما ينهى عن الكتابة فيه .
والقصد بالكتابة المنهي عنها , والرد المحرم , والمناظرة التي لا تجوز , والجدل الذي لا يصلح , هو فيما وضحه القرآن والسنة توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض ؛ كقضية توحيد الله بأقسامه الثلاثة : توحيد الربوبية , وتوحيد الألوهية , وتوحيد الأسماء والصفات .
ومثلها العقائد الأخرى ؛ كالعقيدة في القرآن والسنة , وكذلك العقيدة في القضاء والقدر , والعقيدة في الصحابة رضي الله عنهم , فمن الخطأ الجسيم والغلط البين أن يُترك لكل من هب ودب أن يكتب أو يناظر أو يرد , أو يجادل في هذه العقائد مخالفاً ومناقضاً لها , ومشككاً فيها , ووجه الغلط البين والخطأ الجسيم , هو أن الطوائف المخالفة لعقيدة الإسلام , والمذاهب المناقضة لصريح القرآن والسنة ؛ كالمعتزلة والجهمية والباطنية والإمامية , لم تظهر ولم تتشكل إلا بسبب سماح وتهاون وتساهل بعض حكام وخلفاء وملوك المسلمين ، فلما ظهرت , كان لابد لعلماء وفقهاء الكتاب والسنة القيام بواجباتهم في الرد عليها , والتأليف في إظهار مخالفتها ومناقضتها لصريح النصوص والوحي المنزل .
وهنا يتبين نتيجة هذا الخطأ الجسيم والغلط البين على العملية التنموية والحضارية , وذلك لانشغال علماء الإسلام وفقهائه بتلك الردود والمؤلفات عن دراسة حاجات عصرهم , ومواكبة تطورات زمنهم , وانشغلوا كذلك عن استشراف مستقبل حضارتهم , وكان هذا سببًا في تباطؤ مسيرة إصدار الأحكام تجاه المستجدات الفقهية ، وعلة لتعطيل المكنة الفقهية لدى فقهاء وعلماء الإسلام ؛ لأنهم انشغلوا بتصحيح عقيدة الناس في الله , وتوحيدهم لله , والرد على المخالفين , وهذا أهم وأعظم من قضية ترتيب حياتهم الاجتماعية وتنظيمها , وإصدار الأحكام فيها , والقيام بالحسبة تجاه الفساد المالي والإداري . ولا أظن أحدًا يشك بأنه لولا الفهم السقيم , والرأي الغلط ممن لم يكن من أهل العلم بالكتاب والسنة في قضية الزكاة ؛ لما انشغلت الدولة والمجتمع وعلى رأسهم الصحابة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بما سمي حروب الردة , والتي ذهب ضحيتها بعض علماء الصحابة وقراؤهم . ولولا السبب نفسه لما انشغل الصحابة وعلماء التابعين في مواجهة فكر المرجئة والخوارج , ومن ثم محاربتهم , ولولا الجدال والمناظرة والكتابة في مسألة القرآن , التي كانت من نتائجها ظهور بدعة القول بخلق القرآن ؛ ما انشغل أئمة الإسلام بالرد عليها وتفنيدها, ولا يشك أحد بأن في هذا إشغالاً لهؤلاء العلماء والفقهاء عن قضايا المجتمع , وحاجات الناس من الفقه , وإصدار الأحكام الفقهية على الأقضية الجديدة , بل فقد الناس علماء وفقهاء إجلاء بسبب هذه البدعة ، فقد قُتل بعض العلماء الذين واجهوها , وسُجن آخرون , وتوارى عن الأنظار آخرون .
وسبب هذا كله أن الخليفة العباسي سمح للمتكلمين (أهل المذهب الكلامي) بالكلام والجدال والمناظرة في عقائد الكتاب والسنة , ودفع بمن لم يكن على فهم سلف الأمة بالكتابة والتأليف في عقائد الأمة , ولهذا لا نعجب أن يكون عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عصر تنظيم الدواوين , وعهد ترتيب القضاء وتعاملات الناس , وأحسب أن من أسباب ذلك رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه كل من هب ودب أن يروي أو يشكك في النصوص والعقائد , ومواقفه في هذا كثيرة جداً , بل كان شديدًا على صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك , فضلاً عن غيرهم , وما قصة صبيغ بن عسل (3) إلا خير مثال على ذلك . نعود ونقول : إنه إلى عصرنا هذا والمجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية تعيش وترزح تحت نير هذه الاختلافات والطائفية التي هي نتيجة لفهم سقيم , ورأي غلط , وتجرؤ على عقائد الإسلام من أناس غير جديرين بالكلام في هذه العقائد ؛ إما لجهلهم أو عدم تخصصهم ، أو أنهم من العلماء لكنهم مخالفون لفهم ورأي وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما زالت المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية تكتوي بنار إجراءات أمثال الخليفة المأمون العباسي في السماح والتسهيل لمن لم يكن من علماء الكتاب والسنة وسلف الأمة بالكلام والكتابة والمناظرة والمجادلة في عقائد الإسلام , وعقائد الكتاب والسنة , وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما تقدم هو جانب من جناية تساهل بعض الخلفاء وسلاطين الدولة الإسلامية تجاه مسيرة التنمية والتحديث وتطوير المجتمع , أما الجانب الآخر فهو نتيجة للأول , فلما سُمح لكل من هب و دب بالكلام في عقائد الناس وعقائد الكتاب والسنة كما سبق , كانت النتيجة أن شق الصف الإسلامي وانقسم المجتمع المسلم , فلولا تساهل وتسامح الخليفة أو السلطان تجاه أول من تكلم في مسألة القضاء والقدر والإيمان , وعقيدة الأسماء والصفات والقرآن والأفعال ؛ لما تكونت فرقة القدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية , التي شغلت علماء الكتاب والسنة في الرد عليها , وشقت الصف وقسمت المجتمع المسلم , ونتيجة لذلك دخل المجتمع المسلم بجميع مستوياته من الخليفة إلى العامة في سجال فكري عقيم (4) .
وهذا السجال الفكري – مع الأسف - شارك فيه الطبيب والكيميائي والصيدلي والفلكي والفيزيائي والجغرافي والرحالة . فكان اهتمام أصحاب التخصصات الطبيعية وغيرهم بالمشاركة في السجال العقدي والحروب الكلامية لابد أنه كان على حساب علومهم وتطورها , وعلى حساب وقتهم في معاملهم , ومتابعتهم لتخصصاتهم , وإلى هنا نستطيع أن نعرف سبب وعلة تخلف بعض المجتمعات الإسلامية تنموياً وحضارياً , وسبق الأمم لها .
وبهذا نستطيع أيضا أن نعرف جناية من يأتي أو يتقدم إلى مجتمع كالمجتمع السعودي قام على عقيدة واحدة , هي عقيدة أهل السنة والجماعة , ومبني على صريح النصوص وفهم الصحابة لها , ويعتقد بهذه العقيدة الواحدة غالب طبقات المجتمع من الدولة إلى العامة , وعلى اختلاف تخصصاتهم من الفلكي إلى الحَذَّاء , فهي عقيدة الدولة والنظام التعليمي والتربوي , وقامت المحاكم الشرعية على اعتمادها ؛ فمن الجناية على هذا المجتمع وعلى العملية التنموية وعلى التقدم الحضاري والتحديث , وكذلك من الجناية على مسيرة الفلكي والطبيب والفيزيائي والكيميائي وغيرهم من أصحاب التخصصات أن يُسمح أو يُترك لمن أراد تفريق عقيدة المجتمع على عدة عقائد , ويجزئ المجتمع إلى عدة فرق , وأن يعيدها جَذَعًا ؛ بأن يبعث الطائفية من مرقدها ( لعن الله من أيقظها ) (5) الحديث ، ويعيد الحروب الكلامية القديمة من جديد تحت اسم التعددية الفكرية , ومن خلال شعار: (الدين لله والوطن للجميع) ؛ فلا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين ؛ فوحدة العقيدة لدى المجتمع السعودي – بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء – كانت من أكبر وأهم أسباب تقدمه وتطوره السريع , والنقلة التنموية الكبيرة فيه , ومن ثم سلامته من براثن التعددية العقدية ، والحروب الكلامية والفرق المذهبية ، فمن تلك الشهادات التي أحسبها مهمة في بابها ؛ لأنها جاءت من شخص نختلف معه في الفكر اعترافات بفشل بعض المشروعات والبرامج المطروحة في عالمنا العربي .
يقول شاكر النابلسي : " إن مشاكل الاقتصاد والفكر والثقافة والسياسة التي تعاني منها دول وشعوب العالم الثالث , التي تبحث عن النماذج والأشكال المستقبلية وتحتار في مسألة الاختيار ليست موجودة في المملكة العربية السعودية ، لماذا ! ؟ لأن الإسلام والشريعة قد توليا حل كل هذه المشاكل ووصفت الحلول منذ ما يزيد عن ألف سنة , لكل المشاكل التي عانى منها العالم الثالث , ويحاول كما قلنا أن يبحث له عن خيارات, علما بأن الخيار الإسلامي جاهز وكامل , وهذا ما مكن المملكة العربية السعودية من أن تقفز خلال الخمس عشرة سنة الماضية قفزة كانت ستأخذ من أي شعب آخر لم يتبن الخيار الإسلامي عشرات السنين . إن ما يطلق عليه اقتصاديًا وتنمويًا ( حرق المراحل ) لم يتم في المملكة العربية السعودية ؛ لأن هذا البلد يملك من الإمكانات المادية ما أهله لحرق المراحل , ولكن بسبب بسيط وجوهري في نفس الوقت وهو أن النهج الإسلامي في الاقتصاد والفكر والاجتماع والسياسة الذي انتهجته المملكة قد وفر عليها وقتًا وجهدًا كبيرين , كان من المفروض أن يُستنزفا في حل المشاكل الاجتماعية والفكرية والسياسية نتيجة لتبنيها نموذجًا وضعيًا مُعرضًا كما هو معروف للخطأ والصواب . أما وقد انتهجت المملكة النهج والأنموذج الإسلامي السماوي المطلق المنزه عن الخطأ ؛ فقد كفاها هذا النموذج شر الخطأ وشر التجارب المريرة والإحباطات الفكرية والاجتماعية التي أصيبت بها كافة النماذج الوضعية في الشرق والغرب والشمال والجنوب " (6) .
بل يدعم هذا التوجه الذي تنتهجه المملكة أحد عمالقة علم الاجتماع , وخبير في عمارة الدول وانتكاساتها , وهو العلامة ابن خلدون , يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري موضحًا هذا الجانب عند ابن خلدون : " إن ابن خلدون , لرسوخ إيمانه الديني الأصولي , قد هاجم الفلاسفة الميتافيزيقين في الإسلام كالفارابي وابن سينا , واتفق مع الإمام الحافظ حجة الإسلام الغزالي في تخطئة الفلاسفة التي تتعاطى بما وراء الوجود, وبالميتافيزيقيا وبالغيبيات , باعتبار أن هذه الأمور من اختصاص الدين لا من اختصاص العقل . أما العقل فمجاله الطبيعي دراسة التاريخ , وعلم الاجتماع , وعلوم المنطق , والرياضيات , والفيزياء , أي باختصار العلوم العملية الداخلة في نطاق التجربة الإنسانية وقدرات العقل الإنساني .
كل ذلك يعني أن ابن خلدون قد استطاع أن يجمع ويوفق بين إيمانه الديني الراسخ , وعلمه الديني الواسع , وبين أفكاره العلمية الاجتماعية التقدمية في العامل القومي والعامل الاقتصادي ونحوهما , دون أن يجد – لأصالته في الجانبين – أن أحدهما ينقض الآخر, أو يخالف الآخر " (7) .
وقد أجاد الدكتور محمد السيد الجليند حينما تكلم عن مشكلة التخلف الحضاري عن مواكبة العصر ، وذكر منها العلاقة بين العقل والغيب ، حيث قال : "السؤال الذي ينبغي أن نطرحه الآن ، ما موقف العقل من التعرف على عالم الغيبيات وقضاياه ؟ والإجابة على هذا السؤال تحمل معالم المنهج المطلوب في علاقة العقل بعالم الغيب .
إن قضية الإيمان بالغيب هي محك الخلاف بين المنهجين : منهج عرف أصحابه للعقل إمكاناته وطاقاته من جانب ، وعرفوا أيضًا مطلب الشرع والوحي من العقل والوظيفة التي ناطه بها من جانب آخر .
أما المنهج الثاني فأطلق أصحابه العنان لعقولهم . فلم يعترفوا بإمكاناته ، ولا طاقاته بل قالوا : إن العقل قادر على أن يخضع كل شيء لسلطانه ما غاب عنه وما حضر ، ما أدركته الحواس وما غاب عنها ، حتى ما أخبرت به الأنبياء عن عالم الغيب وقضاياه يجب أن يخضع العلم به وبكيفيته لسلطان العقل .
ولا مانع عندهم من رفض هذا العالم الغيبي وإنكاره ، ولم يفرقوا في ذلك بين مطلب الشرع من العقل في عالم الشهادة ومطلبه من العقل في عالم الغيب ، والخلاف بين المنهجين يكمن في المنهج أولاً .
إن أصحاب المنهج الأول وظفوا العقل فيما خلق له في التعرف على عالم الغيب ، واعتمدوا في ذلك على مصدرًا واحدًا هو الوحي.
أما أصحاب المنهج الثاني فلم يفرقوا في ذلك بين عالم الشهادة وعالم الغيب في علاقة العقل بكل منهما . والسؤال الآن : أي المنهجين أكثر احترامًا للعقل .. وأيهما أكثر عقلانية، أن نأخذ الحديث عن الغيب وعن الله مأخذ التصديق به كما جاء به الوحي ، أم نتخيل له كيفيات عقلية لسنا مطالبين بها أولاً ، ولا سبيل لنا إلى العلم بها بالحواس ثانيًا ؟ " (8) .
---------------------------------
(1) سورة الأنفال , الآية :46 .
(2) مجموعة العبقريات الإسلامية , ص 16 .
(3) روى الدارمي من طريق سلمان بن يسار قال : قدم المدينة رجل يقال له : صبيغ بن عسل فجعل يسأل عن متشابه القرآن . فأرسل إليه عمر , فأعد له عراجين النخل , فقال : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . قال : وأنا عبد الله عمر . فضربه حتى أدمى رأسه . فقال : حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي .
(4) هو عقيم بالنسبة للمخالفين لعقائد الكتاب والسنة لأنهم يناظرون ويناقشون فيما وضحه القرآن والسنة توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض والنصوص فيه صريحة جداً وفهم الصحابة لها منقول ومسطور أما علماء الكتاب والسنة ومن هم على فهم سلف الأمة فهم على أجر عظيم ومنزلة عالية لأنهم ينافحون عن الحقيقة التي أرادها الله سبحانه وتعالى والعقيدة التي سنها لعباده .
(5) أورده الشيخ الألباني في كتابه ضعيف الجامع الصغير وزيادته (4/104) ، وضعفه.
(6) سعودية الغد الممكن لشاكر النابلسي .
(7) لقاء التاريخ بالعصر ، للدكتور محمد جابر الأنصاري , ص 119.
(8) خلل في مسيرة الأمة ، محمد السيد الجليند ، ص 83-86 (بتصرف) .
يقول عباس العقاد : ( بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علماً عليها وتضاءلت سطوتها في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها .. ) (2)
من الحقائق التاريخية التي كاد يتفق عليها كثير من المؤرخين أن من أسباب خلخلة مكانة الدولة الإسلامية منذ ظهورها إلى عصرنا هذا هو تخلفها حضارياً وتنموياً , وعدم مواكبتها للتطور والتقدم والتحديث ؛ وأحسب أن من أهم أسباب ذلك هو انشغال علمائها ومفكريها بالجدل فيما لا يصلح فيه الجدل , وبالمناظرة فيما لا يجوز فيه المناظرة , وبالرد فيما يحرم فيه الرد , وكذلك التفرغ للكتابة فيما ينهى عن الكتابة فيه .
والقصد بالكتابة المنهي عنها , والرد المحرم , والمناظرة التي لا تجوز , والجدل الذي لا يصلح , هو فيما وضحه القرآن والسنة توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض ؛ كقضية توحيد الله بأقسامه الثلاثة : توحيد الربوبية , وتوحيد الألوهية , وتوحيد الأسماء والصفات .
ومثلها العقائد الأخرى ؛ كالعقيدة في القرآن والسنة , وكذلك العقيدة في القضاء والقدر , والعقيدة في الصحابة رضي الله عنهم , فمن الخطأ الجسيم والغلط البين أن يُترك لكل من هب ودب أن يكتب أو يناظر أو يرد , أو يجادل في هذه العقائد مخالفاً ومناقضاً لها , ومشككاً فيها , ووجه الغلط البين والخطأ الجسيم , هو أن الطوائف المخالفة لعقيدة الإسلام , والمذاهب المناقضة لصريح القرآن والسنة ؛ كالمعتزلة والجهمية والباطنية والإمامية , لم تظهر ولم تتشكل إلا بسبب سماح وتهاون وتساهل بعض حكام وخلفاء وملوك المسلمين ، فلما ظهرت , كان لابد لعلماء وفقهاء الكتاب والسنة القيام بواجباتهم في الرد عليها , والتأليف في إظهار مخالفتها ومناقضتها لصريح النصوص والوحي المنزل .
وهنا يتبين نتيجة هذا الخطأ الجسيم والغلط البين على العملية التنموية والحضارية , وذلك لانشغال علماء الإسلام وفقهائه بتلك الردود والمؤلفات عن دراسة حاجات عصرهم , ومواكبة تطورات زمنهم , وانشغلوا كذلك عن استشراف مستقبل حضارتهم , وكان هذا سببًا في تباطؤ مسيرة إصدار الأحكام تجاه المستجدات الفقهية ، وعلة لتعطيل المكنة الفقهية لدى فقهاء وعلماء الإسلام ؛ لأنهم انشغلوا بتصحيح عقيدة الناس في الله , وتوحيدهم لله , والرد على المخالفين , وهذا أهم وأعظم من قضية ترتيب حياتهم الاجتماعية وتنظيمها , وإصدار الأحكام فيها , والقيام بالحسبة تجاه الفساد المالي والإداري . ولا أظن أحدًا يشك بأنه لولا الفهم السقيم , والرأي الغلط ممن لم يكن من أهل العلم بالكتاب والسنة في قضية الزكاة ؛ لما انشغلت الدولة والمجتمع وعلى رأسهم الصحابة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بما سمي حروب الردة , والتي ذهب ضحيتها بعض علماء الصحابة وقراؤهم . ولولا السبب نفسه لما انشغل الصحابة وعلماء التابعين في مواجهة فكر المرجئة والخوارج , ومن ثم محاربتهم , ولولا الجدال والمناظرة والكتابة في مسألة القرآن , التي كانت من نتائجها ظهور بدعة القول بخلق القرآن ؛ ما انشغل أئمة الإسلام بالرد عليها وتفنيدها, ولا يشك أحد بأن في هذا إشغالاً لهؤلاء العلماء والفقهاء عن قضايا المجتمع , وحاجات الناس من الفقه , وإصدار الأحكام الفقهية على الأقضية الجديدة , بل فقد الناس علماء وفقهاء إجلاء بسبب هذه البدعة ، فقد قُتل بعض العلماء الذين واجهوها , وسُجن آخرون , وتوارى عن الأنظار آخرون .
وسبب هذا كله أن الخليفة العباسي سمح للمتكلمين (أهل المذهب الكلامي) بالكلام والجدال والمناظرة في عقائد الكتاب والسنة , ودفع بمن لم يكن على فهم سلف الأمة بالكتابة والتأليف في عقائد الأمة , ولهذا لا نعجب أن يكون عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عصر تنظيم الدواوين , وعهد ترتيب القضاء وتعاملات الناس , وأحسب أن من أسباب ذلك رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه كل من هب ودب أن يروي أو يشكك في النصوص والعقائد , ومواقفه في هذا كثيرة جداً , بل كان شديدًا على صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك , فضلاً عن غيرهم , وما قصة صبيغ بن عسل (3) إلا خير مثال على ذلك . نعود ونقول : إنه إلى عصرنا هذا والمجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية تعيش وترزح تحت نير هذه الاختلافات والطائفية التي هي نتيجة لفهم سقيم , ورأي غلط , وتجرؤ على عقائد الإسلام من أناس غير جديرين بالكلام في هذه العقائد ؛ إما لجهلهم أو عدم تخصصهم ، أو أنهم من العلماء لكنهم مخالفون لفهم ورأي وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما زالت المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية تكتوي بنار إجراءات أمثال الخليفة المأمون العباسي في السماح والتسهيل لمن لم يكن من علماء الكتاب والسنة وسلف الأمة بالكلام والكتابة والمناظرة والمجادلة في عقائد الإسلام , وعقائد الكتاب والسنة , وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما تقدم هو جانب من جناية تساهل بعض الخلفاء وسلاطين الدولة الإسلامية تجاه مسيرة التنمية والتحديث وتطوير المجتمع , أما الجانب الآخر فهو نتيجة للأول , فلما سُمح لكل من هب و دب بالكلام في عقائد الناس وعقائد الكتاب والسنة كما سبق , كانت النتيجة أن شق الصف الإسلامي وانقسم المجتمع المسلم , فلولا تساهل وتسامح الخليفة أو السلطان تجاه أول من تكلم في مسألة القضاء والقدر والإيمان , وعقيدة الأسماء والصفات والقرآن والأفعال ؛ لما تكونت فرقة القدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية , التي شغلت علماء الكتاب والسنة في الرد عليها , وشقت الصف وقسمت المجتمع المسلم , ونتيجة لذلك دخل المجتمع المسلم بجميع مستوياته من الخليفة إلى العامة في سجال فكري عقيم (4) .
وهذا السجال الفكري – مع الأسف - شارك فيه الطبيب والكيميائي والصيدلي والفلكي والفيزيائي والجغرافي والرحالة . فكان اهتمام أصحاب التخصصات الطبيعية وغيرهم بالمشاركة في السجال العقدي والحروب الكلامية لابد أنه كان على حساب علومهم وتطورها , وعلى حساب وقتهم في معاملهم , ومتابعتهم لتخصصاتهم , وإلى هنا نستطيع أن نعرف سبب وعلة تخلف بعض المجتمعات الإسلامية تنموياً وحضارياً , وسبق الأمم لها .
وبهذا نستطيع أيضا أن نعرف جناية من يأتي أو يتقدم إلى مجتمع كالمجتمع السعودي قام على عقيدة واحدة , هي عقيدة أهل السنة والجماعة , ومبني على صريح النصوص وفهم الصحابة لها , ويعتقد بهذه العقيدة الواحدة غالب طبقات المجتمع من الدولة إلى العامة , وعلى اختلاف تخصصاتهم من الفلكي إلى الحَذَّاء , فهي عقيدة الدولة والنظام التعليمي والتربوي , وقامت المحاكم الشرعية على اعتمادها ؛ فمن الجناية على هذا المجتمع وعلى العملية التنموية وعلى التقدم الحضاري والتحديث , وكذلك من الجناية على مسيرة الفلكي والطبيب والفيزيائي والكيميائي وغيرهم من أصحاب التخصصات أن يُسمح أو يُترك لمن أراد تفريق عقيدة المجتمع على عدة عقائد , ويجزئ المجتمع إلى عدة فرق , وأن يعيدها جَذَعًا ؛ بأن يبعث الطائفية من مرقدها ( لعن الله من أيقظها ) (5) الحديث ، ويعيد الحروب الكلامية القديمة من جديد تحت اسم التعددية الفكرية , ومن خلال شعار: (الدين لله والوطن للجميع) ؛ فلا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين ؛ فوحدة العقيدة لدى المجتمع السعودي – بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء – كانت من أكبر وأهم أسباب تقدمه وتطوره السريع , والنقلة التنموية الكبيرة فيه , ومن ثم سلامته من براثن التعددية العقدية ، والحروب الكلامية والفرق المذهبية ، فمن تلك الشهادات التي أحسبها مهمة في بابها ؛ لأنها جاءت من شخص نختلف معه في الفكر اعترافات بفشل بعض المشروعات والبرامج المطروحة في عالمنا العربي .
يقول شاكر النابلسي : " إن مشاكل الاقتصاد والفكر والثقافة والسياسة التي تعاني منها دول وشعوب العالم الثالث , التي تبحث عن النماذج والأشكال المستقبلية وتحتار في مسألة الاختيار ليست موجودة في المملكة العربية السعودية ، لماذا ! ؟ لأن الإسلام والشريعة قد توليا حل كل هذه المشاكل ووصفت الحلول منذ ما يزيد عن ألف سنة , لكل المشاكل التي عانى منها العالم الثالث , ويحاول كما قلنا أن يبحث له عن خيارات, علما بأن الخيار الإسلامي جاهز وكامل , وهذا ما مكن المملكة العربية السعودية من أن تقفز خلال الخمس عشرة سنة الماضية قفزة كانت ستأخذ من أي شعب آخر لم يتبن الخيار الإسلامي عشرات السنين . إن ما يطلق عليه اقتصاديًا وتنمويًا ( حرق المراحل ) لم يتم في المملكة العربية السعودية ؛ لأن هذا البلد يملك من الإمكانات المادية ما أهله لحرق المراحل , ولكن بسبب بسيط وجوهري في نفس الوقت وهو أن النهج الإسلامي في الاقتصاد والفكر والاجتماع والسياسة الذي انتهجته المملكة قد وفر عليها وقتًا وجهدًا كبيرين , كان من المفروض أن يُستنزفا في حل المشاكل الاجتماعية والفكرية والسياسية نتيجة لتبنيها نموذجًا وضعيًا مُعرضًا كما هو معروف للخطأ والصواب . أما وقد انتهجت المملكة النهج والأنموذج الإسلامي السماوي المطلق المنزه عن الخطأ ؛ فقد كفاها هذا النموذج شر الخطأ وشر التجارب المريرة والإحباطات الفكرية والاجتماعية التي أصيبت بها كافة النماذج الوضعية في الشرق والغرب والشمال والجنوب " (6) .
بل يدعم هذا التوجه الذي تنتهجه المملكة أحد عمالقة علم الاجتماع , وخبير في عمارة الدول وانتكاساتها , وهو العلامة ابن خلدون , يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري موضحًا هذا الجانب عند ابن خلدون : " إن ابن خلدون , لرسوخ إيمانه الديني الأصولي , قد هاجم الفلاسفة الميتافيزيقين في الإسلام كالفارابي وابن سينا , واتفق مع الإمام الحافظ حجة الإسلام الغزالي في تخطئة الفلاسفة التي تتعاطى بما وراء الوجود, وبالميتافيزيقيا وبالغيبيات , باعتبار أن هذه الأمور من اختصاص الدين لا من اختصاص العقل . أما العقل فمجاله الطبيعي دراسة التاريخ , وعلم الاجتماع , وعلوم المنطق , والرياضيات , والفيزياء , أي باختصار العلوم العملية الداخلة في نطاق التجربة الإنسانية وقدرات العقل الإنساني .
كل ذلك يعني أن ابن خلدون قد استطاع أن يجمع ويوفق بين إيمانه الديني الراسخ , وعلمه الديني الواسع , وبين أفكاره العلمية الاجتماعية التقدمية في العامل القومي والعامل الاقتصادي ونحوهما , دون أن يجد – لأصالته في الجانبين – أن أحدهما ينقض الآخر, أو يخالف الآخر " (7) .
وقد أجاد الدكتور محمد السيد الجليند حينما تكلم عن مشكلة التخلف الحضاري عن مواكبة العصر ، وذكر منها العلاقة بين العقل والغيب ، حيث قال : "السؤال الذي ينبغي أن نطرحه الآن ، ما موقف العقل من التعرف على عالم الغيبيات وقضاياه ؟ والإجابة على هذا السؤال تحمل معالم المنهج المطلوب في علاقة العقل بعالم الغيب .
إن قضية الإيمان بالغيب هي محك الخلاف بين المنهجين : منهج عرف أصحابه للعقل إمكاناته وطاقاته من جانب ، وعرفوا أيضًا مطلب الشرع والوحي من العقل والوظيفة التي ناطه بها من جانب آخر .
أما المنهج الثاني فأطلق أصحابه العنان لعقولهم . فلم يعترفوا بإمكاناته ، ولا طاقاته بل قالوا : إن العقل قادر على أن يخضع كل شيء لسلطانه ما غاب عنه وما حضر ، ما أدركته الحواس وما غاب عنها ، حتى ما أخبرت به الأنبياء عن عالم الغيب وقضاياه يجب أن يخضع العلم به وبكيفيته لسلطان العقل .
ولا مانع عندهم من رفض هذا العالم الغيبي وإنكاره ، ولم يفرقوا في ذلك بين مطلب الشرع من العقل في عالم الشهادة ومطلبه من العقل في عالم الغيب ، والخلاف بين المنهجين يكمن في المنهج أولاً .
إن أصحاب المنهج الأول وظفوا العقل فيما خلق له في التعرف على عالم الغيب ، واعتمدوا في ذلك على مصدرًا واحدًا هو الوحي.
أما أصحاب المنهج الثاني فلم يفرقوا في ذلك بين عالم الشهادة وعالم الغيب في علاقة العقل بكل منهما . والسؤال الآن : أي المنهجين أكثر احترامًا للعقل .. وأيهما أكثر عقلانية، أن نأخذ الحديث عن الغيب وعن الله مأخذ التصديق به كما جاء به الوحي ، أم نتخيل له كيفيات عقلية لسنا مطالبين بها أولاً ، ولا سبيل لنا إلى العلم بها بالحواس ثانيًا ؟ " (8) .
---------------------------------
(1) سورة الأنفال , الآية :46 .
(2) مجموعة العبقريات الإسلامية , ص 16 .
(3) روى الدارمي من طريق سلمان بن يسار قال : قدم المدينة رجل يقال له : صبيغ بن عسل فجعل يسأل عن متشابه القرآن . فأرسل إليه عمر , فأعد له عراجين النخل , فقال : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . قال : وأنا عبد الله عمر . فضربه حتى أدمى رأسه . فقال : حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي .
(4) هو عقيم بالنسبة للمخالفين لعقائد الكتاب والسنة لأنهم يناظرون ويناقشون فيما وضحه القرآن والسنة توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض والنصوص فيه صريحة جداً وفهم الصحابة لها منقول ومسطور أما علماء الكتاب والسنة ومن هم على فهم سلف الأمة فهم على أجر عظيم ومنزلة عالية لأنهم ينافحون عن الحقيقة التي أرادها الله سبحانه وتعالى والعقيدة التي سنها لعباده .
(5) أورده الشيخ الألباني في كتابه ضعيف الجامع الصغير وزيادته (4/104) ، وضعفه.
(6) سعودية الغد الممكن لشاكر النابلسي .
(7) لقاء التاريخ بالعصر ، للدكتور محمد جابر الأنصاري , ص 119.
(8) خلل في مسيرة الأمة ، محمد السيد الجليند ، ص 83-86 (بتصرف) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق