القـرآن الكـريـم
سورة العنكبوت(29)
قال الله تعالى: {وما كُنتَ تَتلوا من قَبلِه من كتابٍ ولا تَخُطُّه بيمينكَ إذاً لارتابَ المُبطِلُون(48) بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صدورِ الَّذين أوتوا العلمَ وما يَجحدُ بآياتنا إلاَّ الظَّالمون(49)}
ومضات:
ـ لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم أُميَّ القراءة والكتابة، فقد كان قارئاً لعلوم الله تعالى بالسلطان اللدُنِّي؛ الَّذي أمدَّه الله به، وربط به فؤاده.
ـ لقد تهيَّأ النبي صلى الله عليه وسلم نفسياً وروحياً بالإلهام الإلهي، حيث حُبِّب إليه الاختلاء وحده في مدرسة غار حراء، حتَّى أصبح مستعداً لتلقِّي العلوم الإلهية، وهذا يُثبت أن العلم الإلهي الَّذي يستقرُّ في الصدور المؤمنة، هو الركيزة الربَّانية الموصلة إلى حضرة الله، لاستيعاب تعاليمه عزَّ وجل واتِّباعها، مصداق قوله تعالى: {..وعَلَّمْناه من لَدُنَّا علما} (18 الكهف آية 65).
في رحاب الآيات:
لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منطقة كانت شبه منعزلة حضاريّاً عمَّا يجاورها من إمبراطوريات. فقد وُلِدَ ونشأَ في الحجاز، البلد الَّذي كان منغمساً في الشرك والوثنية، والمتمسِّك بما يفرضه الولاء للحياة القبليَّة. أمَّا بالنسبة للقراءة والكتابة بوصفها علامات ودلالات على روح الحياة الثقافية، فقد كانت منعدمة نسبياً في تلك البيئة الَّتي غلب على أفرادها وصف الأمِّية. وكان شخص النبي صلى الله عليه وسلم يمثِّل الحالة الاعتيادية من هذه الناحية، فلم يكن قبل البعثة ولا بعدها يقرأ الكتب، ولم يكن يتلقَّى أي نوع من أنواع التعليم، بالمفهوم الَّذي يفهمه الناس من كلمة علم وتعليم.
وهذا النصُّ القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وحُجَّة دامغة حتَّى في حقِّ من لا يؤمن بأن القرآن من عند الله. فهو نصٌّ أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم على قومه وتحدَّث به إلى أعرف الناس بحياته، فلم يعترض أحد على ما قال؛ لأنه لم يؤْثَر عنه أيُّ مساهمة قبل بعثته بما كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة. وقد عاش فيهم أربعين سنة قبل البعثة، دون أن يشعر الناس من حوله بأي شيء يميِّزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف، ودون أن تبرز في حياته أيُّ بذور علمية، أو اتجاهات جادَّة نحو عملية التغيير الكبرى، الَّتي طلع بها على العالم فجأة، فجاءهم بأعظم كتاب عرفته البشرية؛ ربَّاني المصدر والتعاليم. وهذه هي صفته في الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل حيث ورد فيها: (إن آية نبوَّته أن يخرج حين يخرج لا يعلم كتاباً ولا يخطُّه بيمينه).
إذن فلا وجه للشكِّ في أن هذا القرآن منزَّل من عند الله، فهو ليس مفتعلاً من صنع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يتعلَّمه من الكتب المأثورة عمَّن قبله. وحتَّى لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم كاتباً وقارئاً، فلا يجوز لهؤلاء المعارضين أن يرتابوا، فإعجاز القرآن يشهد بذاته أنه ليس من نظم بشر، مهما علا شأنه، وإن كان محمَّداً ذاته، فلو كان من عنده صلى الله عليه وسلم لنسب إلى نفسه صفاتٍ تتناسب مع حبِّ الإنسان للظهور، ولادَّعى من المواهب ما يوهم به أصحاب العقول الصغيرة والأنفس الضعيفة فيجد الحظوة لديهم. ولكنَّه محمَّد الصادق الأمين، قيادته بيد خالق الأكوان، المعطي والمانع، ولا حول ولا قوَّة له، لا هو ولا أتباعه، إلا بالله العليِّ العظيم. والقرآن الكريم أعظم من طاقات البشر، ومعرفتهم، وآفاقهم، والحقُّ الَّذي فيه، ذو طبيعة مطلقة كالحقِّ الَّذي في هذا الكون، وكلُّ وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأنَّ وراءه قوَّة، وفي عباراته سلطاناً لا يصدران عن بشر.
وليس القرآن كما يقول المبطلون من الجاهلين سحراً أو شعراً، ولكنَّه آيات ودلائل هَدَتْ إلى دين الله وأحكامه، ولقد أضاءت أنوارها في صدور الَّذين أوتوا العلم، فأصبحت مستودعاً للحكمة الإلهية، والأسرار الربَّانية. إن كلاً منا بوسعه أن يكون من أولي العلم إذا اكتشف أعماقه، والقوى الهائلة الكامنة فيها، ووصل طاقاته الدفينة بالطاقة الإلهية العظمى. وأولو العلم وحدهم، هم الَّذين يستطيعون أن يميِّزوا بين كلام الله وكلام البشر، وما يجحد بهذا القرآن إلا المتجاوزون للحدود بالمكابرة والعناد والشر.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {أفلا يَتَدبَّرونَ القُرآنَ ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيهِ اختِلافاً كثيراً(82)}
ومضات:
ـ تتضمَّن الآية دعوة الناس إلى التأمُّل في معاني القرآن الكريم، والتفكُّر في أحكامه، وَفَهْمِ ما يرمي إليه بكلِّ أبعاده بشكل مدروس جاد، واكتشاف كنوزه العلمية والأخلاقية والتربوية.
ـ القرآن الكريم هو كتاب الله أنزله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلِّغه للناس. ولو كان من نظم البشر وتأليفهم لكان فيه الكثير من التناقضات، إذ لا يمكن للبشر أن يصوِّروا الحقائق الكونية أو العلمية أو التاريخية كما صوَّرها القرآن الكريم، يستوي في ذلك ما كان معلوماً منها عندهم أو مجهولاً.
في رحاب الآيات:
لم يُنَزَّل القرآن للتلاوة أو التجويد فقط، بل للدراسة والفهم ومن ثمَّ التطبيق. ففي كلِّ آية من آياته قانون، أو دستور، أو خطَّة للسير، أو انفتاح للعقل على علم أو حكمة أو منهج. والمطلوب من الإنسان أن يفتح قلبه لتلقِّي هذا البيان السماوي، ويفتح عقله لفهم معانيه السامية وألفاظه البليغة، ففي تدبُّره وفهمه يظهر برهانه، ويسطع نوره وبيانه، وتتجلَّى أبعاده العلمية والأخلاقية والسلوكية.
وقد دعا الله الناس إلى التدبُّر في أمر القرآن وإدراكه، لأنه كلَّما اتسع هذا الإدراك، ودقَّ هذا الفهم، تبيَّن لهم أن القرآن من عنده عزَّ وجل. فهل يمكن لعقل بشري إصدار مثل هذه الموسوعة العظيمة، لغةً وبياناً، وإعجازاً وإخباراً عن المغيَّبات من الماضي والمستقبل، وبحثاً في مختلف العلوم المجهولة، وفوق ذلك هذا النور الَّذي يُشِعُّ في القلب عند تلاوته؟. ولو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً لأسباب منها:
1 ـ إن القرآن تحدَّث عن الماضي الَّذي لم يشاهده الرسول عليه السلام، وعن الحاضر المستتر، فأخبر عن خفايا النفوس ومكنونات الضمائر، كما تحدَّث عن الآتي الَّذي لم يحدث بَعْدُ منه شيء وقت النزول، فأخذ يتحقَّق بعد النزول شيئاً فشيئاً وإلى يومنا هذا. ولعل أهمَّ مثال على ذلك قوله تعالى: {وإِنَّه لَذِكْرٌ لكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسْأَلُون} (43 الزخرف آية 44)، أي أن القرآن سيكون فخرا وشرفا لمحمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقريش بل للعرب كلِّهم خصوصا، وللعالم الإسلامي عموما، عندما يتمسَّكون بأحكامه، وهكذا كان. والابتعاد عن جوهر القرآن وتعاليمه، يستلزم المساءلة والمحاسبة من قبل ربِّ العالمين، كما يسبِّب الهوان والذلَّ اللذين صرنا إليهما بهذا البعد والتجافي.
2 ـ القرآن الكريم هو الكتاب المعجز الَّذي لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثل ما جاء به، من فنون القول وألوان البيان العربي، وأنواع العِبر وأجناس المخلوقات، سواء في الأرض أم في السماء، فقد تكلَّم عن الخلق والتكوين، ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها، والرياح والبحار، والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات، وكان في ذلك كلِّه يؤيِّد بعضه بعضاً، لا تفاوت فيه ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى كما هو الحال في كلِّ ما يصنع الإنسان.
3 ـ التناسق المطلق الكامل بين آيات القرآن، هو السِّمة الَّتي يدركها من يتدبَّر هذا القرآن، كما أن كلَّ عقل وكلَّ جيل يجد فيه ما يحتاج إليه، حسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه. وتتجلَّى ظاهرة التناسق هذه أيضاً في منهج التربية، للنفس البشرية والمجتمعات الإنسانية، وفي منهج التقويم للإدراك البشري ذاته، فقد تناول شتَّى قواه وطاقاته وإعمالها معاً في عملية الإدراك، وفي منهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته وبين هذا الكون الَّذي يعيش فيه، ثمَّ بين دنياه وآخرته.
4 ـ إذا كان الفارق بين الإبداع الإلهي والتأليفِ البشري واضحاً في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه لأوضح في جانب التفكير والتنظيم والتشريع، إذ يتَّسِم المنهج القرآني بأنه شامل متكامل، ثابت الأصول، يسمح بالحركة الدائمة مع ثباته. فهو مرن فيَّاض قادر على إمداد المستجدَّات بأحكام توافق مساره، وهو مع ذلك يجمع بين الوسطية والاعتدال، وبين المثالية والواقعية، وهذه أمور تفرَّد بها ولم يشاركه فيها منهج آخر.
ومتى استقرَّ في نفس الإنسان أن القرآن من عند الله؛ اهتدى بنوره وصحَّت مسيرته، وصلُح شأنه، وحقَّق السعادة لنفسه ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء، في دينها ودنياها وآخرتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق